هل تظهر حاجة الناس الى الدين زمن الوباء

هل تظهر حاجة الناس الى الدين زمن الوباء؟

في إطار تفاعل الإنسانية جمعاء مع تداعيات جائحة كورونا كوفيد 19 كثر السؤال عن موقف الدين إزاء انتشار الأوبئة وكيفية معالجة تداعياتها على الناس، فطفت على ساحة الأحداث أسئلة كثيرة منها: إلى أي حد تفاعل الدين مع وباء كورونا؟ ما هو موقف الدين من الأوبئة عموما؟ هل يعتبر كورونا ابتلاء كغيره من صنوف الابتلاءات أم أنه عقاب إلهي للعصاة والمخطئين؟ هذه الأسئلة وغيرها نقلناها بدورنا إلى أهل الاختصاص الدكتور ﭘال هيك المتخصص في الفقه المسيحي من جامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية، والدكتور رضوان غنيمي أستاذ الفقه الإسلامي واصوله بكلية العلوم الشرعية بالسمارة جامعة ابن زهر بالمملكة المغربية.

السؤال الأول: من الإشكالات الطارئة التي تعتبر من تداعيات هذا الوباء: الحجر الصحي الذي تطلب إغلاق دور العبادة عبر العالم، نود أن نعرف من فضيلتكم موقف الدين من هذا القرار.

الدكتور غنيمي:

الابتلاء سنة إلهية ماضية في الخلق تمحيصا لهم، أو تطهيرا، أو رفعا للدرجات، قال تعالى في سورة العنكبوت “أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ” فتكون الأوبئة وغيرها من المحن نوعا من الابتلاء الرباني تمحيصا للمؤمنين على مستوى صلتهم بربهم ودفعا لهم للانسلاخ عن كل ما يبعدهم عنه بالتضرع والتوسل إليه تعالى، لكن بلغ من تداعيات ابتلاء كورونا أن مُنع الناس من ارتياد المساجد وإقامة الجُمع وصلاة الجماعة مما جعلهم في نوع من الحرج المتوهم لأن جوهر الدين يقضي برفع الحرج والتيسير على الخلق وحفظ الأبدان والأديان التي يعتبر مقصدا ضروريا من مقاصد التشريع الإسلامي، وإذا تعارض حفظ الدين وحفظ النفس قدمنا حفظ النفس لأن بحفظها نحفظ الدين، وفي ضياعها وفواتها ضياع للدين لأن النفس هي التي تقيم لنا الدين، ومنع الجماعة والجمعة فيه حفظ كامل للنفس، وتضييع لجزء من الدين لا كل الدين، خصوصا أن الصلاة والدعاء والتلاوة والذكر كل ذلك قائم مستمر، والجماعة إنما هي مكملة للدين لا كل الدين أما حفظ النفس فمقصد أصلي كلي فيكون الامتناع عن العبادات الجماعية إذن من المأمورات الواجبة شرعا في هذه المرحلة وعدم الالتزام به هو تمرد على الدين.

الدكتور هيك:

يتزايد قلق الإنسان زمن الوباء وتزداد حاجته لتلبية رغباته الروحية التي يرى فيها طمأنية لنفسه. لذا يسعى الى إثبات التقوى من خلال العبادة، وهو أمر محمود ولا شك. ولكن عددا من المؤمنين في الولايات المتحدة كما في البلدان الأخرى يصرّون على حقهم في الصلاة الجماعية رغم الأمر بإغلاق بيوت العبادة ظنا منهم أن صلاة الجماعة زمن البلاء دليل رضا من الله وتوفيق منه. بعبارة أخرى يصلّون ليظهروا نوعا من تزكية نفوسهم وبيان رفعة درجتهم عند الله مقارنة ببقية أفراد المجتمع، بل على حساب المجتمع، والحقيقة أن صلاتهم هذه في نظر الدين باطلة لأنها صلاة المغتر المعجب بدينه كما بين ذلك المسيح في رواية متى للبشارة حيث يقول: “وإذا صليتم فلا تكونوا كالمرائين فإنهم يحبون الصلاة قائمين في المجامع وملتقى الشوارع ليراهم الناس. الحق أقول لكم إنهم أخذوا أجرهم.” يعني أثبتوا السمعة في الدنيا دون التقوى.

السؤال الثاني: إلى أي حد يمكن الحديث عن حضور الرحمة في الدين من خلال تعاليمه بشأن الوباء وآثاره؟

الدكتور غنيمي:

الدين كله رحمة، وإلا كيف نصف دينا جاء لينقذ البشرية من ظلمات الجهل ليدخلهم في نور رحمة ربهم، كما أننا قد نتحدث في الإسلام عن تشريع في الحالة العادية وتشريع في الحالة الاستثنائية أي الضرورية، كما هو الحال مع الأوبئة، فكل الأحكام تنهار في حالة الضرورة رحمة بالمؤمنين لأن حفظ أنفسهم أقدس من أي مقدس، قال رسول الله ﷺ “لهدم الكعبة حجرا حجرا أهون من قتل مسلم.” وقال أيضا “لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق” ولنا في الرخص الشرعية المثال الواضح: فالصوم وإن كان ركنا إلا أن حكم وجوبه ينهار أمام ضرورة الحامل والمرضع والمريض والشيخ الكبير والمسافر رحمة بهم يقول الله تعالى في سورة النساء “وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً.”

الدكتور هيك:

الدين بعينه رحمة فيدعو جميع الناس الى فعل الإحسان بعضهم الى بعض والى المسكين على وجه الخصوص. تشديد الدين على فعل الرحمة هو الذي يُبقى المجتمع على إنسانيته أمام رعب الوباء. وصدر للبابا فرنسيس كتاب عنوانه اسم الله الأعظم هو الرحمن. لذلك ينبغي للمؤمن النظر الى العالم بعين الرحمة شهادة للرحمة الإلهية. هكذا يقول المسيح في عظته الكبرى: “طوبى للرحماء لأنهم يعرفون الرحمة.” ومن الجدير بالذكر أن الشفاء الذي هو الآخر من صفات الله تابع لرحمته تعالى. فليضاعف جميع المؤمنين في كل أنحاء العالم الجهود في سبيل شفاء المجتمع من آثار هذا الوباء اللعين، ما سينشر الشعور بالرحمة في قلوب الناس أجمعين.

السؤال الثالث: هل من المسوغ في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تعيشها البشرية أن نتحدث عن عقاب إلهي؟، أم الأحرى أن نفتح باب الأمل أمام الناس لنحدثهم عن الرحمة الإلهية، وإذا كانت الرحمة حاضرة فما هي بعض مظاهرها التي ينبغي أن تظهر في سلوك الناس اليوم وفقا لتعاليم الدين؟

الدكتور غنيمي:

بالفعل انقسم الناس حيال هذا الوباء إلى صوتين الأول: بشكر الوباء ويرى فيه عقاب الله المسلط على العصاة من عباده، وهذا فيه فرح وابتهاج بمصيبة الآخر وتزكية للنفس وهو خلاف الهدي المحمدي الذي حذرنا من إظهار الشماتة بالناس عند مصابهم، والثاني عميق متناه في اللؤم يحمل لواء اليأس والقنوط وإبعاد خلق الله عن رحمة ربهم بهم، وكلها أصوات تنشر أفقا أسودا بين الناس، وتصادم جوهر الدين الذي جاء ليفتح للناس باب الأمل من جديد، وليس هذا دأب المؤمن وقد توعّد النبي ﷺ من ينتهج هذا الأسلوب المنفّر فقال ﷺ “من قال هلك الناس فهو أهلكهم” ورتب لهم في المقابل الأجر مع صبرهم على البلاء قال ﷺ “عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له! وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.” ومن مظاهر الرحمة التي يجب أن تظهر بين الناس اليوم الالتزام التام بالإجراءات الوقائية التي لا محيد لنا عنها لنعلم أن مسألة ملازمة البيوت لم تعد مجرد إجراء وقائي دعا إليه الأطباء وأخصائيوا علم الأوبئة والفيروسات، بل هو واجب شرعي ونمط من أنماط التدين ورحمة الناس بكف الأذى عنهم.

الدكتور هيك:

لا يصح القول إن الوباء عبارة عن سخط الله، لأن الابتلاء بالشر يصيب الصالح كما يصيب الفاسد. وقد ردّ المسيح على مثل ذلك الوهم في رواية لوقا للبشارة: “وأولائك الذين سقط عليهم البرج وقُتِلوا: أتظنّونهم أكبر ذنباً من سائر أهل القدس؟” الوباء شرّ في حد ذاته و لاشك، ولكنه في نفس الآن يدفعنا الى التأمل في سرّ الله في الخلق، ويُذكر في المزامير أن الخلق كله مدعو الى تسبيح الله ولكن الانشغال بشواغل الدنيا ينسينا تلك الحقيقة، ومما لا شك فيه هو أن ترك الانتباه الى سر الله في الخلق يفتح الباب للاعتداء عليه، ما يسبّب في ظهور الوباء وتفشيه. هكذا لا يدل الوباء على العقاب وإنما ينبهنا على سنة الله في الكون. والانتباه الى سنة الله في الكون يؤدي بالإنسان الى ترتيب أولوياته. وبالفعل انتبه الكثير الى هذا الأمر فتركوا الأنانية والآن يتسارعون الى السؤال عن حاجيات الأخرين قبل حاجيات النفس شهادة لرحمة الله بخلقه تعالى.

السؤال الرابع: كيف تعاطى الدين عبر تاريخ البشرية مع حالات الأوبئة؟ وهل كان بالفعل حاضراً؟ 

الدكتور غنيمي:

لقد ارتبط حضور الدين وممارسة التدين بوجود البشرية من لدن آدم عليه السلام، وبالتالي رافق الانسان في يسره وعسره، ومنها حالات انتشار الأوبئة، وحيث إن الإسلام دين واقعي يتفاعل مع حياة الناس فقد كانت تشريعاته في زمن المحن والأوبئة حاضرة دائمة سواء في نصوص الوحي، أو جلية من خلال اجتهاد الفقهاء، ومن ذلك تشريع النبي ﷺ للحجر الصحي زمن الأوبئة حرصا على سلامة الأصحاء كي لا تصيبهم العدوى فقال ﷺ “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها.” وقال ﷺ أيضا “لا يوردن ممرض على مصحّ”. وقال ﷺ أيضا “فر من المجذوم فرارك من الأسد.”

الدكتور هيك:

تكثر قصص التاريخ التي تشهد لقوة الدين عند الوباء واستعداد المؤمن للتضحية بماله وأحيانا بنفسه في سبيل العناية بالمصابين، ومن أبرز القصص في المسيحية من هذا القبيل قصة القديس كارْلو بورّوميو الذي تكفّل بحاجيات الشعب كافة حين هرب أهل الدنيا من آثار الوباء الذي اجتاح شمال إيطاليا في القرن السادس عشر للميلاد، هكذا تشير حياة المؤمن الى بقاء الخير في حين قد يتساءل الكثير عن وجوده، الشيء الذي يلهم بقية المجتمع التمسك بالأخلاق رجاء في الله. ومما يدفع المؤمن الى إظهار الرحمة للغير دون مقابل في زمن الوباء بدلاً من الهروب ما يدعو إليه من إظهار الرحمة نص من رسالة يوحنا الأولى: “من له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فيعرض عنه فكيف تقيم فيه محبة الله؟” تدل كل هذه مؤشرات على أن المجتمع زمن الوباء بالفعل يتفكك لو لا الدين الذي يدعو المؤمن الى الغيرة على خير الجميع.

السؤال الخامس: مع اشتداد الأزمة في بعض الدول بدأت تطفو على سطح الأحداث دعوى غريبة من قبيل التضحية بفئة معينة من المجتمع في سبيل إنقاذ فئة أخرى على أساس أن الثانية هي الفاعلة، ترى ما موقف الدين من مثل هذه الدعوات؟

الدكتور غنيمي:

لقد أولى الإسلام عناية خاصة للضعفاء رحمة بهم مهما كان سبب ضعفهم ولعل من مظاهر الضعف كبر السن بل اعتبر الإسلام إكرام كبير السن من مظاهر إجلال الله تعالى قالَ رسولُ اللَّه ﷺ “إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللَّهِ تَعَالَى: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبةِ المُسْلِمِ” بل اعتبرهم الشرع سببا في استجلاب رحمة الله التي لا حدود لها قال النبي ﷺ “إنما ترزقون وتُنصرون بضعفائكم” وبالتالي تكون هذه الدعوى بمثابة قتل للنفس، لأن الأصل أن الناس لن يموتوا بوباء كورونا أو غيره وإنما بقدر الله، وهذه الدعوى تصادم حقيقة الإيمان الذي يقوم على التسليم لله وفيها سوء أدب مع الرب في تحديد من له الحق في الحياة فضلا عما فيها من نكران الجميل والتنكر للآباء والاجداد، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاثة لا يستخف بحقهن إلا منافق العالم الناصح وكبير السن والحاكم العادل.

الدكتور هيك:

يدعونا الله تعالى الى حفظ الدين في زمن الوباء كما في زمن الرخاء، وهدف الدين الأكبر في المسيحية حث المؤمن على إظهار الرحمة، بما في ذلك العناية بمن هم في وضعية هشة ممن أصابهم الضعف داخل المجتمع وقد أشار المسيح الى ذلك في رواية متى للبشارة: “كلما فعلتم شيئاً من الخير لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار (أي الضعفاء) فلي قد فعلتموه.” وفي ذلك القول حكمة فإن المجتمع يؤكد إنسانيته بقدر عنايته بكل أعضائه والضعيف على وجه الخصوص لأن الضعيف، مثل القوي، خُلِقَ على صورة الله يعني متوجهاً بفطرته نحو وجه الله خالق الجميع. لذلك له كرامة بفطرته لا يجوز التضحية بها. ومن يزعم أن التضحية بفئة من المجتمع لا بد منها لحفظ الصالح العام فإنه بذلك يخلّ بإنسانيته هو، بل يقدّم قانون الغابة على أخلاق البشرية.