غرباء العصر

بقلم (Paul L. Heck)

مما لا شك فيه هو أن الله تعالى يدعونا الى الترحيب بالغريب. لذا يُطرح السؤال : كيف ننظر الى وجود المهاجرين واللاجئين في بلادنا؟

اليوم يكثر المهاجرون واللاجئون عبر العالم هاربين من الحرب والفقر باحثين عن الأمن والعمل. والأمر قديم. على سبيل المثال، منذ زمن يهاجر مغاربة الى أوروبا وأمريكا. واليوم يقيم في المغرب أفارقة من وراء الصحراء كما يكثر أمثالهم في الولايات المتحدة من أهل المكسيك وغيره من بلاد أمريكا اللاتينية. هل يمثلون عبئاً على الوطن وموارده؟ هل يفرضون أنفسهم علينا نحن المواطنين ليستغلوا خيراتنا وثرواتنا؟

لا تُنكر مثل تلك المشاعر في الوجدان. وفي نفس الوقت نشعر بالعجز أمام القضية. ماذا أستطيع تقديمه لهم وهم آلاف؟ هل أجلس معهم لأتعرّف عليهم؟ يختلفون عني في اللغة والثقافة والعادات إلا أنهم يشاركونني الإنسانية. في الحقيقة ينزلون عندنا بحثاً عن العمل. لا يستغلون الوطن بل قد يكون العكس صحيحاً والوطن الذي يرحب بالغريب ويؤهله فإنه يربح مما هو عليه من استعداد للعمل

ما أودّ الإشارة اليه فيما يلي هو ما يتداول في الإعلام من مصطلحات بشأن غرباء العصر هؤلاء وهي مصطلحات قانونية في الأصل، مثلاً، مهاجر غير شرعي، لاجئ بطريقة غير قانونية، شخص غير مواطن، كأن صِنف المهاجر واللاجئ وصنف المجرم صنف واحد. ويترك ذلك أثراً علينا بل يُشعرنا بالخوف من المهاجر واللاجئ شعور خوفنا من المجرم، الأمر الذي يقلل من إنسانية المهاجر واللاجئ

يعتاد الإنسان على التفريق بين الوحشي والإنسي، أي بين من يُعتبر أهلاً ليعيش في المجتمع ومن هو غير أهل. ذلك من جهة ومن جهة أخرى كثيراً ما نُدرج الغريب، وذلك بلا شعور، في صنف المجرم بسبب تلك المصطلحات القانونية التي اعتاد الإعلام إطلاقها على المهاجر واللاجئ. وما اعتاده الإعلام فإننا نحن الآخرين اعتدناه شئنا أم أبينا. هكذا يتبادر الى الذهن أن كون المهاجر واللاجئ يخالف القنون بطبيعتهما، ما يجعل منهما كياناً غير أهل للحياة في للمجتمع

ذلك ويُلاحظ أن الإعلام يركز على نزاعات العالم، ما يثير شبهات حول المشترك الإنساني. هل يلتزم الجميع بالقيم الإنسانية نفسها؟ هل يمكن أن نثق بغيرنا؟ ومن ضحايا هذه الشبهات المهاجر واللاجئ، أي الغريب وهو يعاني منها أكثر من غيره لأنه يظهر أمامنا في المجتمع ليمثل الآخر الذي يثير الإعلام شبهات حول المشترك بينه وبيننا. لا يخفى أن منظمات دولية ووطنية تراعي شؤون المهاجر واللاجئ من حيث الحاجات المادية. الحاجات المادية شيء والشعور بالإنسانية المشتركة شيء آخر

ماذا سيعزز غريب العصر من حيث إنسانيته حتى لا ننسى كونه إنسياً لا يخلتف حاله عن حال المواطن في ذلك؟

كثيراً ما لا نأخذ الدين بعين الاعتبار فيما يخص المهاجر واللاجئ. يدعونا الدين الى النظر الى المجتمع نظرة إلهية فلا يصنف الله تعالى خلقه وإنما يصحّ القول إن الله قريب لغير المواطن كما هو قريب للمواطن لأن الخلق كله عيال الله ولا يفرّق تعالى بين صاحب الدار ونزيلها. لذلك لا يصنف المؤمن خلق الله صنفاً شرعياً وصنفاً غير شرعي. هكذا يعيد الدين الإنسانية الى وجوه المهاجرين واللاجئين

هل أنظر الى المهجارين نظرة الخالق الى خلقه أو نظرة المصنف الى غيره؟

ويُطرح هذا السؤال على كل مؤمن أكان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً. إن الله يدعو جميع المؤمنين الى تعزيز حقوق الخلق كله بما فيه مهاجرون ولاجئون، ومن بين حقوقه حق الهجرة واللجوء. من لا يحصل على ضروريات الحياة في بلده منها الأكل والسكن والتعليم والعمل والكرامة بل حق الاختلاف وكلما يحتاج الإنسان اليه لحفظ إنسانيته فله الحق أن يترك بلده للبحث عن لقمة العيش عند غيره

وهناك أمر آخر لا يقلّ أهميةّ عن حقوق الخلق وهو أننا خُلقنا جميعاً لنعبد الله والعبادة أشكال منها الصلاة ومنها نفع غيرنا حتى يكون هو الآخر قادراً على السير الى وجه الله. بعبارة آخرى نحن جميعاً مهاجرون في الدنيا سائرين الى وجه الله في هجرة مشتركة فلا نمضي قدماً إلا بعضنا بحصبة  بعض لأن الخلق كله له مرجع واحد. ذلك ومن يُحرم إنسانيته فإنه يُحرم شيئاً مما يسيّره في الهجرة الكبرى الى وجه الله لأن الحياة في الجنة تمثل قمة الإنسانية. هكذا فإن المؤمن مدعو الى أن يعين غيره على الرقى بإنسانيته حتى يكون أقدر على السير الى مقصود حياته. ويُحسب ذلك للمؤمن بِرّاً يرضي الله تعالى. لذلك من يردّ الإنسانية الى الغريب وهو بعيد عن بلده وأهله ويشعر بأنه منسي بل منبوذ في مجتمع قد لا يفرق بين حالة المهاجر واللاجئ وحالة المجرم فإن من يلبي لدعوة الدين في ذلك الأمر فإنه من عباد الله

هكذا يلعب الدين دوراً لا يُستغنى عنه في حفظ الاستقرار وتعزيز الازدهار، والدين هو ما يفتح قلب الإنسان الى غيره. والقانون شيء والدين شيء آخر. ولا ننسَ أن جميع الأنبياء عليهم السلام اضطروا الى الهجرة واللجوء فهل يجوز النفور ممن يعيش ما عاشه الأنبياء والصالحون؟ وتحثّنا الكتب السموية على احترام الغريب بكونه لا يقل قيمة عن ابن البلد أمام الله، مثلاً، في التوراة القول “يكون النزيل مثلكم أمام الرب” (سفر العدد 15) والقول “فليكن عندكم النزيل المقيم فيما بينكم كابن البلد تحبّه حبك لنفسك” (سفر اللاويين 19)

فلنرجع الى النقطة الأولى فلا بد من التنبيه الى الإشكالية في المصطلحات التي تُطلق على الغريب لتجعل منه كياناً قانونياً في عين المواطن – مهاجر غير شرعي، شخص غير مواطن، دخيل بلا أوراق رسمية – كأنه غير إنسان بل كيان غير رسمي خارج المجتمع الرسمي. هكذا تفقدنا مثل هذه المصطلحات الشعور بإنسانيتنا لأن من يعمى عن إنسانية غيره فإنه أعمى عن إنسانية نفسه فإن المجتمع الذي يسارع الى التقليل من إنسانية الغريب فإنه سيكون أسرع الى التقليل من إنسانية المواطن. وتكثر أمثلة اليوم من ذلك القبيل عبر العالم كله

وتكمن قوة المجتمع في حفظ إنسانية الجميع

ليس المهاجر بمجرم بطبيعته ولا اللاجئ. المجرم هو المجرم وقد يكون مواطناً كما قد يكون غير مواطن

فلنختم بالالتفات الى الإشكالية في معاني القانون

هناك قوانين الدولة وهي إدارية في الأصل تنظم شؤون المجتمع تنظيماً إدارياً. وهناك قوانين الكون أو ما يسمى السنن الكونية منها أحكام الفطرة وهي تكشف عن الغايات والمقاصد التي خُلق الخلق من أجلها. وهناك أحكام الله من حيث الطاعة والمعصية. قد يكون حال المهاجر أو اللاجئ مخالفاً لقوانين الدولة الإدارية ولكن كون الغريب مخالفاً لقوانين تنظم المجتمع لا يجعله عاصياً أمام الله لأن قوانين الدولة لا تجعل من الإنسان طاعياً أو عاصياً أمام الله ولا تجعل منه مستجيباً أو غير مستجيب للسنن الكونية. بعبارة أخرى لا تحدد قوانين الدولة الإدارية حالة الإنسان أمام الله ولا حالته فيما يخص الغاية التي خُلق من أجلها. قد يكون حال المهاجر أو اللاجئ مخالفاً لقوانين الدولة الإدارية في حين هو يعبد لله يستجيب للغاية التي خُلق من أجله وهي فعل الخير وترك الشرّ. ما ذنبه وهو اضطر الى الفرار من بلده؟ يقرب الله للمهاجرين واللاجئين بكونهم مهاجرين ولاجئين يعانون من الغربة والحرمان فلا يمنع الله أحداً من النزول في رحابه تعالى. أما قوانين الدولة فقد تنتج عنها نظرة إقصائية تحطّ من قيمة الغريب إلا أن الله تعالى لا يحطّ من قيمة خلقه ولا يخرج البعض عن جنس البشر. لا يحطّ من قيمة الإنسان أكان مواطناً أو غير مواطن لا السنن الكونية ولا أحكام الله. أما قوانين الدولة الإدارية فهي تحدد من هو صالح للمشاركة في المجتمع ومن هو غير صالح ولكن الدين يحول دون ذلك ويدعو المجتمع الى الإقرار بإنسانية المهاجرين واللاجئين وهم غير مواطنين إلا أنهم نزلاء في رحاب الله وهو تعالى يبلونا بوجود الغرباء بيننا لنرى اينا أحسن عملاً

الله هو ملجأ جميع المبعدين والمهمشين والمنبوذين فإنه تعالى قريب للجميع وكونه قريباً للجميع يزيل الحواجز بين أنواع البشر. والتصنيف هو أمر يبادر اليه الإنسان فلا بد من الحذر. لا تُنكر أهمية القوانين الإدارية من حيث الإستقرار إلا أنها قد تنسينا إنسانيتنا المشتركة. لا بد من نظام في المجتمع إلا أن ذلك لا ينبغي أن يؤدي بنا الى التصنيف لأن الدين يحول دون النظر الى الغريب نظرة إدارية وإنما يدعونا الى النظر اليه نظرة الله الى خلقه وهو تعالى لا يتركه مهما كان حاله أمام القانون. وكيف ننظر الى وجود المهاجرين واللاجئين في بلادنا؟