فكر علي بن أبي طالب وما فيه من حكمة للجميع

بقلم (Paul L. Heck)

مما لا شك فيه هو الدور البارز الذي لعبه علي بن أبي طالب في تكوين الحضارة الإسلامية. لذلك يعز ذكره عند جميع المسلمين من أهل السنة وأهل الشيعة على السواء. ولا يُستغرب أن المنتمين الى دين من الأديان يعزّزون الذكر لشخصٍ بذل الجهود في نشره ولكن السؤال يطرح نفسه: ما لغير المسلمين من رؤية الى علي بن أبي طالب؟ هل يوجد في فكره ما يجمع بين الشعوب بغض النظر عن المذهب؟ لا يخفى أن علي بن أبي طالب اشتهر بمواهب وفضائل في عدة مجالات منها البلاغة في الكلام والشجاعة في القتال والعدالة في الحُكم. كذلك يتميز فكره بما يحويه من حكمة. بالإضافة الى ما تركه من خطب ورسائل فإنه ألف الكثير من الحِكم المقصود منها دفع الإنسان الى التفكر في الغاية القصوى للحياة. لماذا أتينا هذا العالم؟ كيف ينبغي أن نعيش فيه؟ وكيف يحسن العمل على مشاريعنا بما وهبه الله إيانا من بصيرة العقل؟ فيما يلي أناقش باختصار ما يوجد في ديوان علي بن أبي طالب من حِكم ودورها في دفع الإنسانية نحو المزيد من التعارف والتضامن.

أولاً وقبل كل شيء لا بد من لمحة خاطفة الى تراث الحكمة في الإسلام. ألا يكفي المسلمين كتاب الله وحده؟ ما يلفت النظر في هذا الصدد هو أن القرآن الكريم نفسه يقول إن الهُدى مركب من الكتاب والحكمة. هكذا أشار تعالى الى أن الكتاب وحده لا يكفي لِما يريده لعباده من هدى فالحكمة هي الأخرى مما يُحتاج اليه. ما هي هذه الحكمة؟ على ما يلوح من القرآن فإن ألله جل جلاله يؤتي الحكمة من يشاء من الأنبياء وغيرهم. ويُكمِل ما يُشار اليه في القرآن من مكانة الحكمة حديثٌ شريف يقول إن الحكمة ضالة المؤمن فلا بد للمؤمن من درك الحكمة بمعنى كلما ينفعه لتحقيق مقاصد الله سواء أكان أصله الإسلام أو غير الإسلام. ومما لا يُنكر هو أن المسلمين من صدر الإسلام فصاعداً انتبهوا الى الأمر وسارعوا الى الاطّلاع على الثقافات آنذاك لجلب النفع مما وجدوه من الحكمة عند اليونان والفرس وأهل الهند وغيرهم من شعوب العالم فدوّنوا ذلك كله في كتب لا تُحصى أمثال عيون الأخبار لابن قتيبة وهو كتاب لا يُستهان به يجمع في ما يحويه من فنون العصر الكثير من الحِكم مما تلقاه المسلمون بالقبول من تراث الحكمة الإنساني. ويدل ذلك على تقدير المسلمين لتراث الحكمة الإنساني والحرص على حفظه. هكذا فإن الحضارة الإسلامية نهلت من عدة مناهل منها الوحي ومنها ما وجده المسلمون من حكمة نافعة مما جمعه غيرهم من الشعوب عبر القرون. وعمل المسلمون على هذا الشأن للانتفاع بحكمة الأمم كما هم بدورهم أتوا الأمم الأخرى ما كان لدى أمة محمد من حكمة. ورأى المسلمون في ذلك كله ما قد يتأدب به المؤمنون من جميع المذاهب بمعنى منهاج تعليمي يغرس الحكمة في القلب تزكية لنفس الإنسان لأن المجتمع لا بد له من أفراد تربّوا على الحكمة بالإضافة الى العلوم والفنون وذلك من أجل حفظ الوئام بين عناصر المجتمع المختلفة فلا صلاح لمجتمع لا يعرف أهله طرق الحكمة النافعة. هكذا فإن الأمر يتلخص في أمرين: من ناحية اعتبر المسلمون تراث الحكمة الإنساني الذي أدرجوه في كتب ومصنفات شيئاً لا يُستغنى عنه لصلاح المجتمع في الإسلام. ومن ناحية أخرى رأوا في ما ذهبوا اليه من حفظ تراث الحكمة الإنساني تكميلاً لما ذكره تعالى في القرآن في شأن الحكمة بكونها قرين الكتاب.

ويُستخلص من ذلك أن ما يكسبه الإنسان من حكمة من خلال التجارب والتفكر فيما ينفعه منها وما يضره فإن ذلك كله مما يُحتاج اليه لتحقيق مقاصد الله. لذلك يجوز القول إن عقل الإنسان له قيمة دينية بما أن العمل به هو الطريق الى كسب ما يشاء الله للإنسان من حكمة من حيث تحقيق مقاصده تعالى. لذلك فإن العقل بجانب الكتاب هو ما يهدي الله به خلقه. وفي هذا المعنى يتكلم علي بن أبي طالب في خطبة من خطبه بشأن الأنبياء وما يثيروه من دفائن العقول إشارة بذلك الى ما لا بد منه من التفاعل ما بين الوحي والعقل. ومن الجدير بالذكر أن البابا يوحنا بولس الثاني رحمه الله تكلم عن الفكرة نفسها في رسالته حول الإيمان والعقل وما لهما من رابطة وثيقة. ويمكن القول إن الوحي يكشف النقاب عن أفاق يتفكر الإنسان فيها إثارة للعقل ما يؤكد دورَ العقل لا غنى عنه في تحقيق مقاصد الله. بعبارة أخرى لا يجوز اتّباع رسالة الله عشوائياً على الهوى لإن رسالة الله ليست برسالة إلهية إلا إذا تلقاها الإنسان بالحكمة والبصيرة. وما يلفت النظر هو أن القرآن الكريم يدعوا الى الحكمة ولكنه لا يفصّل معانيها تفصيلاً كاملاً. هكذا يترك الأمر للإنسان فالإنسان هو المكلف بجمع الحكمة عن طريق التفكر في تجارب بني بشر وما يثمر منه عن علم نافع قد يأتي من تجارب المؤمنين أو من تجارب غيرهم لأن الحكمة ضالة المؤمن. ويثبت التأريخ أن المسلمين رأوا في الحكمة ما يُحتاج اليه لحفظ الدين نفسه كما رأوا فيها شيئا يقاسمونه مع الأمم الأخرى من حيث الأخلاق والآداب وكل ما لا بد منه لصلاح مجتمع متنوع المذاهب.

والظاهر هو أن علي بن أبي طالب له الفضل في المبادرة الى تأليف الحِكم في الإسلام بناء على ثلاثة أشياء: ما أتى به الدين الحنيف وما اشتهر آنذاك من حِكم عند شعوب الجزيرة العربية والبلاد المجاورة لها وما تعلّمه المسلمون من تجارب عاشوها من حيث المزيد من الحنكة والبصيرة وما الى ذلك. وفي ذلك المعنى نرى بين حِكم علي بن علي طالب القول إن العاقل مَن وعظته التجارب. كذلك في وصيته للحسن ينصحه بالانتباه الى تجارب الآخرين والانتفاع بها قائلاً “يا بني إني وإن لم أكن عُمِّرت عمر من كان من قبلي فقد نظرت في أعمالهم وفكّرت في أخبارهم وسرت في آثارهم حتى عدتُ كأحدهم بل كأني بما انتهى اليّ من أمورهم قد عُمِّرت مع أولهم الى آخرهم فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره.” هكذا يؤكد علي بن علي طالب أن التفكر في تجارب الإنسان كائناً من كان فإنه من طرق تحصيل الحكمة.

الحكمة لها معانٍ: الشكر لا الكفر، التواضع لا التكبر، معرفة وقت الكلام عن وقت الصمت، الاستعداد للعفو عند طلب العفو وترك القبض بالغضب والحقد، الكرم بفضل المال في سبيل الخير، الصبر عند البلاء، العمل بالتآني والتشاور والتفكر في العواقب لا العمل بالتهور والعجلة. وإجمالاً ترجع الحكمة الى فكرة هي أن الحياة قصيرة وكل شيء هالك في نهاية المطاف. لذلك ينبغي أن يعمل الإنسان للباقي وليس للفاني ولمجد الله وليس لمجد النفس. ومن يقرأ أقوال علي بن أبي طالب يجد تلك المعاني كلها. هكذا تدعونا  أقواله وحِكمه الى العمل في الدنيا دون التعلق بها والتمسك بما يغوينا به هوى النفس في عزلة عن العقل. فإنما تحثنا أقواله على ترك الهوى وما ينتج عنه من الطمع في السيطرة على الآخرين. وكذلك توصينا بالعمل في الدنيا نظراً الى الآخرة وهي مرجع الجميع فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا.

هكذا يمثل فكر علي بن أبي طالب مدرسة في الحكمة من حيث التأدب وترويض النفس. والهدف من ذلك هو أن يكون الإنسان عاقلاً وقادراً على وضع كل شيء في موضعه لا يهتدي بما في نفسه من هوى وأطماع دنية أمثال الحرص على المال والملك لإن ذلك هو ما يعميه عن الغاية القصوى للحياة حيلولة بينه وبين فطرته الحقيقية. فيحذّر القرآن من نفس بلا تزكية عتاباً لمن يتبع هواه بل يتخذه إلهاً له فإن القرآن يوضح أن رسالة الله موجّهة لقوم يعقلون، أي لمن لا يجعل هواه حاكماً على عقله، وإلا فلا يستطيع المؤمن فهم رسالة الله فهماً صحيحاً بل تبقى الرسالة على لسانه حيث يتردد الكتاب بلا تفكر فلا يصل المعنى الى قلبه لأن هواه يحول دون ذلك. وذلك هو ما يقتضي ترويض المؤمن بالحكمة ليكون قادراً على إدراك ما أرسله ربه من رسالة. لذا فإنه من المستحيل أن يكون الإسلام الإسلام ولا أن يكون المسلم مسلماً إلا بالتفكر في تجارب الإنسان وما فيها من حكمة تهذيباً للنفس وذلك ليكون العاقع حاكماً على الهوى وليس العكس. هكذا لا يجوز للمسلم أن يتّبع دينه من دون ما يأتيه من تراث الحكمة الإنساني تعزيزاً لعقله، وإلا فيتبعه على الهوى دون العقل. وهذا هو ما يحذّر منه علي بن أبي طالب في وصيته للحسن قائلاً “وإنما قلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقِيَ فيها من شيء قبلَته فبادرتُك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبّك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيتَه وتجربتَه.” إن المقصود من هذا القول هو أن الشباب لا يطمئن قلبه دون ثبات الحكمة فيه فيتعرض لكل ما يمر أمامه على الشبكة من خير أو شر من دون القدرة على التمييز بينهما وذلك لِما ينقص تربيتَه ما يغرس الحكمة في قلبه فيبقى عرضة لكل ما ألقِي فيه. ويقول علي بن أبي طالب إن الهوى شريك العمى. وفي موضع آخر يقول إن أغنى الغنى العقل وأكثر الفقر الحمق لأن من لم يملك غضبه لم يكمل عقله فالحِلم غطاء ساتر والعقل حُسام قاطع فاستر خلل خُلقك بحِلمك وقاتلْ هواك بعقلك.

ويطرح السؤال: لماذا سعى علي بن أبي طالب الى تأليف هذه الحِكم تكميلاً للوحي في الإسلام؟ لا يخفى أنه عاش في أكناف محمد وتلقن منه الكثير من الحكمة كما تعلّم منه ما لتراث الحكمة الإنساني من مكانة في الدين الحنيف. ذلك من جهة ومن جهة أخرى واجه أتباع محمد أزمة بعد وفاته. أي مستقبل للرسالة في غياب مَن حملها من أول الأمر وهدى أمته منذ بعثه؟ التبس الأمر فدعت فرقة الى تحكيم الكتاب وحده جهلاً بما ينبّه عليه تعالى في القرآن من مكانة الحكمة في الرسالة. ورأى علي بن أبي طالب في ما ذهب اليه أولئك طريقاً مسدوداً يصل بالأمة الى نكبة لا نظير لها فمن يعلن بالدين من دون الحكمة فإنه يعرّض الدين للخطر لإن هواه هو الغالب على عقله فلا مستقبل لدين يدعوا أهله اليه وهو لا يملك نفسه بل هي الحاكمة عليه. ومما لا شك فيه هو أن هذه الأزمة تركت أثرها على علي بن أبي طالب، الأمر الذي اضطره الى تطوير تراث الحكمة الإنساني ليجعل منه ما لا بد من الالتجاء اليه من أجل تحقيق مقاصد الإسلام. هكذا هدف الى غرس الحكمة في قلب المؤمن حتى يكون عقله الغالب على هواه وذلك لكي لا يكون قلبه عرضة لكل ما يُلقى فيه. ويشير الى هذه الأزمة حديث شريف يذكر قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز حناجرهم. والمقصود من الحديث هو تحذير الأمة ممن يتلو الكتاب ليل نهار على لسانه من دون وصوله الى قلبه حيث يُدرك معناه. والسبب وراء ذلك هو أن مثل ذلك المؤمن لا يملك نفسه بل هواه هو الغالب على عقله. ومن لم يتثقف بتعليمٍ المقصود منه غرس الحكمة في القلب فإنه غير قادر على إدراك ما أرسله ربه من رسالة. قد يعرف كتاب الله وألفاطه ولكنه لا يعرف مقاصده لِما ينقصه من الحكمة.

لقد انتبه الى الأمر علي بن أبي طالب وقام بتأليف الحِكم وذلك لحفظ الدين نفسه لأن الدين الذي يتبع أهله هواه فإنه دين يذهب مع الريح. ويؤكد ذلك في خطبة من خطبه قائلاً “إياكم تهزيع الأخلاق وتصريفها … وليخزن الرجل لسانه لإن هذا اللسان جموح بصاحبه. والله ما أرى عبداً يتقي تقوى تنفعه حتى يخزن لسانه وإن لسان المؤمن وراء قلبه وإن قلب المنافق وراء لسانه لإن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام تدبّره في نفسه فإن كان خيراً أبداه وإن كان شراً واراه وإن المنافق يتكلم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له وماذا عليه. لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولايستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه. فمن استطاع منكم أن يلقى الله تعالى وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم سليم اللسان من أعراضهم فليفعل.” ويؤكد هذا القول ما ذكرناه آنفاً وهو أن المسلمين ليسوا بمسلمين من دون ترويض النفس بالحكمة بالإضافة الى تلاوة الكتاب، والظاهر هو أن علي بن أبي طالب أدرك ضرورة المبادرة الى تأليف الحِكم ليتدبر المؤمن بها وليكون قادراً على اتّباع الدين بالبصيرة لا بالعمى وذلك علاجاً لِما كانت الأمة عليه من أزمة.

وما يلفت النظر هو أن ما ألفه علي بن طالب من حِكم فإنه انطلق في ذلك مما انتهى اليه من تراث الحكمة الإنساني. بطبيعة الحال أعاد النظر فيه وطوره تطويراً يناسب الدين الحنيف ومقاصده وذلك لحفظه من الفتن والتفتت. مع ذلك يجب القول إن ما ألفه علي بن طالب من حِكم فإنه ليس بشيء يخص المسلمين من دون غيرهم لإن ما ألفه فإنه يقاسم ما لأهل جميع المذاهب من حِكم. هكذا فإن حِكم علي بن أبي طالب تصبح نقطة الالتقاء بين المسلمين وغيرهم. من ناحية علي بن أبي طالب هو الذي بادر الى تكوين تراث الحِكم في الإسلام. ومن ناحية أخرى شارك في تطويره بَعده أهل الشيعة وأهل السنة على السواء.

ومهما يكن من أمر فلا بد من القول إن ما في فكر علي بن علي طالب من حكم فإنه يترك أثراً على غير المسلم كما يترك أثراً على المسلم، وأقواله وحكمه لها معنى لغير المسلم كما لها معنى للمسلم. والسبب وراء تكوين هذا التراث في الإسلام هو ما اضطر المسلمون اليه في صدر الإسلام لحفظ الدين ولتحقيق مقاصد الله في حين ظهر قوم تحمّس الى الكتاب بالهوى في عزلة عن العقل إلا أن هذا التراث الذي تكوّن في صدر الإسلام إنه كذلك تراث إنساني له نفع لجميع الخلق بصورة أو بأخرى، الأمر الذي يجعل من فكر علي بن أبي طالب ميداناً للتعارف والتضامن بين الشعوب والأمم. لذلك فإنه من المرجو القيام ببحوث تؤكد المشترك بين ما لفكر علي ابن أبي طالب من حِكم وما للتراث الإنساني عموماً من ذلك. وبطبيعة الحال لا يُنكر ما لفكره من سبغة إسلامية خاصة. مع ذلك فإنه من الواضح أنه يمثل تراثاً من الحكمة مترامي الأطراف قد ينفع التدبرُ به الجميع.

لذلك كله يجوز القول إن فكر علي بن أبي طالب له دور في نشر السلام من حيث المزيد من التعارف والتضامن وذلك لِما يحتويه فكره من حكم قد يجتمع به الجميع. ومن يطّلع على ما لفكره من حكمة نافعة مسلماً كان أو غير مسلم فإنه يجد فيه ما يهذب النفس ويطمئن القلب ويشرح الصدر لاستقبال الآخر وذلك كله ما يمهّد الطريق أمام الجميع الى العمل بالحكمة والتعاون على الخير فيما يواجهه الإنسان اليوم من تحديات محلية ووطنية ودولية ترجع الى غلبة الهوى الذي يدفع الإنسان الى العمل لنفسه ولقومه ولطائفته دون الآخرين وذلك هو ما يجري عندما يغلب الهوى على العقل في غياب الحكمة. وفي أقوال علي بن أبي طالب يوجد ما يدفع الإنسان كائناً من كان الى الالتفات الى الغاية القصوى للحياة من حيث العمل في سبيل الجميع من دون الحرص على المال والملك وذلك نظراً الى الآخرة وهي مرجع الجميع لا شك في ذلك. ويجوز القول إن ما يدعوا اليه علي بن أبي طالب يلمح الى معنى الحرية الحقيقية لأن من يعمل بالحكمة نظراً الى ما يبقى من دون ما يفنى فلا خوف عليه ولا هو يحزن. ذلك من جهة ومن جهة أخرى يجوز القول إن فكر علي بن طالب لِما فيه من حكمة فإنه مِلك الجميع. ويؤكد ذلك ما لعقل الإنسان كائناً من كان من قيمة دينية بما أن تحصيل الحكمة لا يتم من دونه والحكمة هي ما لا بد منه لتحقيق مقاصد الله. من ناحية فإن العقل هو ما وهبه الله لبني بشر عموماً فلا شعب بلا عقل. ومن ناحية أخرى فإن العقل هو ما يحصّل الحكمة التي يُحتاج اليها لتحقيق مقاصد الله. هكذا يجمع فكر علي بن أبي طالب بين ما لبني بشر عموماً بغض النظر عن القوم أو المذهب وبين ما يُحتاج اليه لتحقيق مقاصد الله. بذلك يؤكد فكره أن الله تعالى لا يترك شعباً من الشعوب محروماً من عنايته الإلهية بصورة أو بأخرى لِما أنعم به على الجميع من العقل والقدرة على تحصيل الحكمة فإن ذلك كله هو ما يدفه الإنسانَ الى التعارف والتضامن والتعاون استجابة للنعمة الإلهية التي تسع الجميع.

هكذا فإن فكر علي بن أبي طالب بما أنه يعزز الحكمة ودورها في تحقيق مقاصد الله فإنه يؤكد بذلك مكانة العقل عند الله لأن العقل هو ما وضعه الله في الإنسان من حيث التفكر بالحكمة فيما للإنسان من تجارب. هكذا يلمح فكره بتعزيزه على الحكمة الى أن العقل هو مما يهدي الله به خلقه أجمع. لا يُنكر أن لجميع الشعوب والأمم ما لها من خصائص دينية وثقافية وما الى ذلك إلا أن التنوع هذا لا يوجد لإلغاء ما يتفق عليه جميع الشعوب والأمم من حكمة مشتركة. هكذا فإن الخصائص التي ينبغي الاحترام لها لا توجد لفصل الإنسان عن أخيه ولا شعب عن نظيره لإن الإنسانية تتّحد بما وهب الله إياها من العقل وذلك لتحصيل الحكمة وهو ما يشترك فيه الجميع. هكذا يشير فكر علي بن أبي طالب الى مكانة العقل ودوره فيما يريد الله من الهدى للإنسان كائناً من كان. وذلك هو مما يفتح الباب أمام التعارف والتعاون استجابة لِما يشاركه الخلق أجمع من القدرة على درك ما للإنسان من غاية وهي ترك الشر وخيار الخير. وإن اختلفت الإنسانية بالقوم والمذهب إلا أنه ائتلف بالعقل وما للعقل من القدرة على تحصيل الحكمة. ويُشار الى ذلك المعنى في حديث شريف الذي يقول إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. ويؤكد علي بن أبي طالب ذلك المعنى في حديثه مع كميل بن زياد حيث يتكلم عن ثلاثة أنواع من الناس: الأول هو العالم الرباني المعروف بمكارم الأخلاق والثاني هو من يستقيم أمره ولكنه لا يزال على الطريق نحو الكمال والثالث هو من لا يعرف الحكمة بل يُلقى في قلبه ما لا يستطيع تمييز خيره من شره. فلنركّز على النوع الأول أي العالم الرباني. ومما لا بد من الإشارة اليه هو أن علي بن أبي طالب يتكلم في هذا الموضع عن الناس وليس عن فئة دون فئة. لا يقول “القوم ثلاثة” أو “الأمة ثلاثة” وإنما يقول “الناس ثلاثة” فالقول في أنواع الإنسان هذه لا يقتصر على مذهب دون مذهب ولا على جماعة دون جماعة. لذلك يلمح هذا القول الى أن العالم الرباني يوجد عند جميع الشعوب فلا يخص قوماً من دون قوم أو مذهب من دون مذهب فإن العالم الرباني هذا بما أنه يوجد عند جميع الشعوب فإنه يمثل أكرم ما يكون عليه شعبه من حكمة وأخلاق، الأمر الذي يجعله قدوة لشعبه وفق أحواله وخصائصه. هكذا يُستخلص من فكر علي بن أبي طالب أن العالم الرباني هو ما ينبغي أن يقصد الى تكوينه المنهاج التعليمي المتبع عند جميع الشعوب وفق أحواله وخصائصه.

ويُطرح السؤال بشأن العالم الرباني: ما الصفات لهذا النوع من الناس؟ بالإجمال يتصف بعلم وحكمة ومكارم الأخلاق. في الحقيقة يمثل العالم الرباني الصفات التي أراد علي بن طالب تربية الأحداث عليها، الأمر الذي ألهمه الى تأليف ما ألفه من حكم قصداً بذلك الى وضع منهاج تعليمي يكوّن من الحدث عالماً ربانياً يتحلى بالحكمة وكل ما يثمر عنها من إحسان وحنكة وما الى ذلك. هكذا توجد رابطة وثيقة بين مفهوم العالم الرباني عند فكر علي بن أبي طالب وما ألفه من أقوال وحِكم فليس العالم الرباني إلا من يعمل بالحكمة ومكارم الأخلاق بعيداً كل البعد عن الهوى وما يحركه في الإنسان من غضب ردئ هدام وتهور والافتعال في اللحظة دون النظر الى العواقب. وذلك كله ما قصده علي بن طالب فيما ألفه من حِكم.

هكذا يتضح أن فكر علي بن أبي طالب وإن رجع في الأصل الى ما يُذكر في نصوص الوحي عن الحكمة باعتبارها قرين الكتاب من ناحية وضالة المؤمن من ناحية أخرى إلا أن هذا التراث الذي بادر علي بن أبي طالب الى تكوينه قد يجمع بين المسلم وغير المسلم فيما له من الحكمة بمعنى العمل ببصيرة العقل من دون الهوى الذي يفسد ما لِبني بشر من مصالح مشتركة. ذلك ويحذّر علي بن أبى طالب من الدنيا في مواضع كثيرة من أقواله غير أنه لا يدعوا الى ترك العمل. الحذر من الدنيا شيء وترك العمل شيء آخر، ويتوافق ذلك مع فكرة العالم الرباني الذي ليس إلا حكيم عامل لا حكيم قاعد ولا عامل غير حكيم. وتلك هي خلاصة فكره – كُن حكيماً عاملاً – والرسالة هذه هي للجميع فمن منا ينكر ما لهذا الجمع ما بين الحكمة والعمل من أهمية في العصر هذا؟ ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه الفكرة تتداول عند صفوف الأباء اليسوعيين (جماعة رهبانية تابعة للكنيسة الكاثولكية) وهم الآخرين يسعون الى الجمع ما بين الحكمة والعمل حتى يكونوا عاملين في الدنيا ناظرين الى الآخرة، ويقتضي ذلك منهاجاً تعليمياً لا يقتصر على تبليغ العلم بل يقصد الى تهذيب النفس بالحكمة وذلك هو ما يذهب اليه علي بن أبي طالب. هكذا فإن الآباء اليسوعيون يقاسمون لبّ فكر علي بن أبي طالب من حيث الجمع بين الحكمة والعمل. ولا غرو في ذلك لإن الحكمة لا يحتكرها شعب دون شعب أو قوم دون قوم وإنما ترجع الى ما يكون الإنسان عليه من فطرة فطر الله الجميع عليها.

وفيما يتبقى من المقالة فإني أودّ الالتفات الى نماذج من أقوال علي بن أبي طالب وحِكمه تدل على الأفكار التي طرحناها آنفاً بشأن فكره. وعلى سبيل المثال من أقواله القول إن لسان العاقل وراء قلبه وقلب الأحمق وراء لسانه، والمعنى هو أن الحكيم لا يتكلم إلا بعد الإصغاء الى القلب ومشاورته. أما الأحمق فيستعجل في الكلام بلا تفكر. بعبارة أخرى يعتصم لسان الحكيم بقلبه أما الأحمق فلا. ويشبه هذا القول قول من سفر يشوع بن سيراخ في الكتاب المقدس: “فتَمَسَّكْ بمشورة قلبك فإنه ليس بآمن منه.” ومن الجدير بالذكر أن هذا القول فإنه مما يرتكز عليه مفهوم الضمير عند المسيحية (الضمير بمعنى ما في داخل الإنسان من قوة أخلاقية تدعوه الى ترك الشرّ أم الندمان على فعله). وفي موضع آخر يقول علي بن أبي طالب إن مِن أحبّ عباد الله اليه عبداً أعانه الله على نفسه. والفكرة جميلة أي ألله تعالى يمدّنا بما نحتاج اليه حتى نغلب على أهواء النفس بل نتحرر منها ونعتصم بالفطرة التي فطرنا عليها. لهذا الهدف جمع علي بن أبي طالب ما جمعه من حِكم منهاجاً تعليمياً المقصود منه غرس الحكمة في قلب الإنسان بعون الله. هكذا يدعوا الى العمل على تحرير النفس مما يحول بين الإنسان وفطرته الحقيقية قائلاً “فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبية وأحقاد الجاهلية فإنما تلك الحمية في المسلم من خطرات الشيطان … واعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم وإلقاء التعزز تحت أقدامكم وخلع التكبر من أعناقكم واتخذوا التواضع مسلحة بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده.”

وبطبيعة الحال يوجّه علي بن طالب مثل هذه الأقوال الى حكام الدنيا على وجه الخصوص لِما لهم من سلطة على خلق الله. وعلى سبيل المثال يتقدم بنصيحة لمحمد بن أبي بكر حينما تولى عنان الحكم في مصر قائلاً “فاخفض لهم حناحك وألِن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم.” هكذا يحذّر علي بن أبي طالب الوالي الجديد من الغفلة عن رعاية الحقوق لأفراد المجتمع كافة حتى لا يعتقد أصحاب الجاه أن حُكمه يخص مصلحتهم دون مصلحة المجتمع ككل. وفي هذا الصدد هناك مجال للمقارنة بين فكر علي بن ابي طالب وفكر القديس أغسطينوس وما في كتابه المشهور (مدينة الله) من نصيحة لحكام الدنيا. وينبّه كل من علي بن أبي طالب وأغسطينوس على خطورة المُلك فلا حاكم لا يعتبره إلا مجداً لنفسه إذا تولّاه من دون تهذيب النفس بالحكمة. وليس الملك إلا أمانة من عند الله، ما يقتضي من صاحبه أن يتأدب بحكمة شحذاً للعقل ليتمكّن من الحكم على هواه قبل أن يكون حاكماً على غيره. والمقصود من ذلك هو أن الحُكم وُضع لغاية عليا وليس لمصحلة دنيا. لذلك فإنه على الحاكم أن يروّض نفسه على التواضع والتذلل من دون التكبر والتعزز حتى لا يعتقد أن مُلكه يوجد لمصلحته دون ما لشعبه من مصالح. وما لابن آدم والفخر؟ فأوله نطفة وآخره جيفة ولا يرزق نفسه ولا يدفع حيفه.

وأما ما يميّز أقوال علي بن أبي طالب وحِكمه فلا بد من ذكر البيان في اللفظ والمعنى على السواء ما يترك أثر على القلب لأن أقواله وحِكمه ليست مجرد كلام وإنما المقصود منها دفع الإنسان الى التفكر في الغاية القصوى للحياة. على سبيل المثال يتقدم في قول من أقواله بنصيحة تنفع الجميع بغض النظر عن المذهب قائلاً “طوبى لمن ذل في نفسه وطاب كسبه وصلحت سريرته وحسنت خليقته وأنفق الفضل من ماله وأمسك الفضل من لسانه وعزل عن الناس شرّه.” وفي موضع آخر يقول إن التودد نصف العقل. بعبارة أخرى لا يوجد العقل للتفكر فحسب وإنما وُضع ليهدينا الى العمل بالقصد وما قصد أعلى من التودد؟ لذلك يقول في موضع آخر إن رأس العلم الرفق. ويؤكد ذلك كله في قوله إن الدنيا خُلقت لغيرها ولم تُخلق لنفسها. والمقصود هو أن الدنيا وإن كانت دارنا فإنها ليست غايتنا فلا بد من تسخيرها لغايتنا القصوى وإلا فنخضع لها ولقواها. في هذا المعنى يحث الكثير من أقوال علي بن أبي طالب على القناعة. ومن ليس على القناعة بما له من مبادئ فيسهل ان ينخدع بأغراض فانية. هكذا فإنه يشبّه الحياة بمسير قصير، ما يقتضي أن نكون من الدنيا على قُلعة. لذلك يدعوا الى ترك الطمع قائلاً “مَن أكثر من ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير.” وما يلفت النظر في أقوال علي بن أبي طالب هو ما يعطيه من أهمية من حرية الإنسان أمام الدنيا. على سبيل المثال يقول إن مِن كفارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس من المكروب. هكذا يثبت أن الإنسان يزداد حرية أمام الدنيا بقدر ما يقوم بأعمال الرحمة من أجل مساكين الدنيا تأكيدأ أن أعمال العبادة لا تنفع إلا إذا ترابطت بأعمال الرحمة. هكذا فإن أقواله وحِكمه تمثل علماً نافعاً هو ليس مجرد علم بل يقصد الى تحرير الإنسان مما يعبده من دون الله من شواغل الدنيا وهمومها. لذلك يربط بين الحرية الحقيقية اي الحرية أمام الدنيا والأعمال الصالحة من أجل الآخرين. ومن يعمل على أساس النفس وما فيها من الحرص على المال والملك والعلو وروح الانتقام فإن ذلك ليس إلا عمل من يملكه هواه لا عمل الحر. فيدعوا على بن ابي طالب الى الصبر عند البلاء قائلاً “احمل لمن أدلّ عليك” وفي موضع آخر “لا تكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان” وفي موضع آخر “لا يكبر عليك ظلم من ظلمك” وفي موضع آخر “لا تخُن من ائتمنك وإن خانك ولا تُذِع سر من أذاع سرك” وفي موضع آخر “أكرم من أهانك.” هكذا يحث على العمل بالعدل حتى وإن لم يعاملك غيرك به. قد يُستصعب على الإنسان ما يدعوا اليه في هذا الشأن من دون حالة الحرية أمام الدينا فلا يقدر عليه إلا أبناء الآخرة وهم الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً فحافظوا على ما وُلدوا عليه.

ماذا يعني فكر علي بن أبي طالب اليوم بخصوص التعارف ونشر السلام في العالم؟ في المقالة أشرت الى شيء مما قد يجد المسيحيون (أمثالي أنا) من أرض مشتركة في فكره. وأظن أن حال المسيحيين بشأن فكره هو حال جميع الأمم والمذاهب للأسباب المذكورة آنفاً. من السهل أن نجعل من فكر علي بن أبي طالب ميداناً للتعارف والتفاهم والتضامن. مع ذلك أريد أن أشدد على نقطة أخرى هي ما لفكره من منهاج تعليمي مست الحاجة الى مثله في عصرنا اليوم من حيث ترويض الشباب بالحكمة بالإضافة الى تبليغ العلم اليهم. يُلاحظ اليوم أن العلم يتراكم في خزائن الشبكة ركاماً يعلو الجبال. ماذا ينفعنا هذا المبلغ الضخم من العلم إذا لم يستطع الشباب تمييز خيره من شره حتى يسود السلام في قلبه وفي عالمه. لا ينفعنا شيئاً اذا لم يصحبه منهاج تعليمي يقصد الى غرس الحكمة في قلب الشباب وعالمه. كل يوم نسمع من أخبار تدل على ذلك، أي نماذج ممن له علم ولكن ذلك لا يمنعه من استغلال الضعيف والتهجم على الأبرياء هجوم الصبع العنيف. فلنتذكر العالم الرباني الذي رأى فيه علي بن أبي طالب نوعاً إنسانياً يجب أن يكون الهدف من جهودنا التعليمية، والعالم الرباني له علم يسلك به سلوك الكريم الأخلاق. هل يمكن أن نعيد النظر فيما نتبعه من منهاج تعليمي لنجعل من العالم الرباني الغاية له؟ هذا هو ما أسعى اليه في جهودي التعليمية في جامعة جورجتون. هل أقضى أيامي في تلبيغ العلم فقط دون غرس الحكمة في قلب الشباب حتى يسلك بها وليس دونها؟ فلا بأس أن أستفيد من فكر علي بن ابي طالب في هذا الهدف لأعيد النظر فيما أسعى اليه من التعليم. والسؤال مطروح أمام جميع المعلمين. هل الهدف مما نسعى اليه مجرد تبليغ العلم دون ترويض الشباب على ما يُحتاج اليه في سبيل نشر السلام في قلبه وفي عالمه؟ نستطيع أن نقول إن نشر السلام يقتضي تربية الشباب اليوم غرباً وشرقاً على أن يكون عالماً ربانياً عند أهله عاملاً في الدنيا بقلب تغمره الحكمة. إن فكر علي بن أبي طالب له ما قد يساعدنا على إعادة النظر في مفاهيمنا التعليمية تلبية لما نحتاج اليه اليوم من نشر السلام في قلب الشباب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *